حمل المصحف بأربع صيغ

حمل المصحف

السبت، 22 أكتوبر 2022

*الإيمان بالبعث بعد الموت ودلالات الموت ...

من الالوكة

الإيمان بالبعث بعد الموت
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمانَ بالبعث بعد الموت، قال الطحاوي - رحمه الله -: الإيمانُ بالمعاد مما دلَّ عليه الكتابُ والسنة والعقلُ والفطرة، فأخبر الله - سبحانه - عنه في كتابه العزيز وأقام الدليل عليه، وردَّ على مُنكريه في غالب سُوَر القرآن.
قال - تعالى -: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7]، وقال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [الحج:6، 7]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ﴾ [الإسراء: 49 - 51][1].
ففي الآية الكريمة الأخيرة، يقول - تعالى - مخبرًا عن الكفار المستبعِدين المعادَ، القائلين على وجه الإنكار: إذا كنا عظامًا ورفاتًا - أي: ترابًا - إنا لمبعوثون خلقًا جديدًا؟ ثم أمر الله رسولَه أن يجيبهم فيقول: ﴿ قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ﴾؛ إذ هما أشدُّ امتناعًا من العظام والرفات، ﴿ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾؛ يعني السماء والأرض والجبال، ﴿ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا ﴾؛ أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدًا أو خلقًا آخر شديدًا؟ ﴿ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾؛ أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا، كما قال - تعالى -: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، ثم صرتم بشرًا تنتشرون، فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال، قال - تعالى -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [الروم: 27][2].
روى الترمذي في سننه من حديث عليٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسولُ الله، بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقَدَر))[3].
وقال - تعالى -: ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 78 - 83].
قال بعضهم: لو رام أعلمُ البشر وأفصحُهم وأقدرُهم على البيان، أن يأتي بأحسنَ من هذه الحجةِ أو بمثلها، بألفاظٍ تشابه هذه الألفاظَ في الإيجاز، ووضع الأدلة، وصحة البرهان - ما قَدَر[4].
قال الطحاوي - رحمه الله -: والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء أن الأجسام تتقلب من حالٍ إلى حال، فتستحيل ترابًا، ثم ينشِئها الله نشأة أخرى كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفةً، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظامًا ولحمًا، ثم أنشأه خلقًا سويًّا، كذلك الإعادة، يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عَجْب الذَّنَب، وهو عظمٌ لطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص[5].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كلُّ ابنِ آدم يأكله الترابُ إلا عَجْبَ الذَّنَب، منه خُلق، وفيه يركَّب))[6].
قد يقول قائل: ربما يؤكل الإنسان من قِبَل السباع، أو الحيتان في البحر، أو يحترق تمامًا فلا يبقى من جسده شيء، فما الجواب عن ذلك؟ فيقال: إن الأمر هيِّن على الله، يقول: كن فيكون، وقدرة الله فوق ما نتصوره، والله على كل شيءٍ قدير، روى البخاري في صحيحه من حديث حذيفةَ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن رجلاً حضره الموتُ، فلما يئس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا مِتُّ فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، وأوقدوا فيه نارًا حتى إذا أكلتْ لحمي، وخلصت إلى عظمي فامتُحِشت، فخذوها فاطحنوها، ثم انظروا يومًا راحًا فاذروه في اليمِّ، ففعلوا، فجمعه الله فقال له: لِمَ فعلتَ ذلك؟ قال: من خشيتك، فغفر الله له))[7].
قال عبدالله الأندلسي:
وَالبَعْثُ بَعْدَ المَوْتِ وَعْدٌ صَادِقٌ ♦♦♦ بِإِعَادَةِ الأَرْوَاحِ فِي الأَبْدَانِ
وقال أبو تمام:
فَيَا لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ مَوْتِي وَمَبْعَثِي ♦♦♦ أَكُونُ رُفَاتًا لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِيَا
فإذا آمنَ المؤمن وصدَّق بالبعث بعد الموت، وهو ركنٌ من أركان الإيمان الستة، وأن الله على كل شيء قدير، كما قال - تعالى -: ﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [لقمان: 28]، حاسَبَ نفسَه على كل صغيرة وكبيرة، واستعدَّ للقاء الله، قال - تعالى -: ﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الحجر: 92، 93]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ﴾} [الصافات: 24].
روى الترمذي في سننه من حديث أبي برزةَ الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل: عن عمره فيمَ أفناه؟ وعن عمله فيمَ فعل؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه فيمَ أبلاه؟))[8]، قال عمر - رضي الله عنه -: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنُوها قبل أن توزنوا، وتهيؤوا للعرض الأكبر على الله".
قال الشاعر:
وَلَوْ أَنَّا إِذَا مِتْنَا تُرِكْنَا
لَكَانَ المَوْتُ رَاحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنَّا إِذَا مِتْنَا بُعِثْنَا
وَنُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيِّ
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
المادة باللغة الإنجليزية
اضغط هنا
[1] "العقيدة الطحاوية" ص 456.
[2] "تفسير ابن كثير" (9/ 25 - 27).
[3] ص 357، برقم 2145، وصححه الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن الترمذي" (2/227) برقم 1744.
[4] "العقيدة الطحاوية" ص 460.
[5] "العقيدة الطحاوية" ص 463.
[6] صحيح مسلم، ص 1186، برقم 2955 واللفظ له، وصحيح البخاري، ص 976، برقم 4935.
[7] ص 665، رقم 3452.
[8] ص 396، برقم 2417، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
=====
للموت معانٍ كثيرة
للموت معانٍ كثيرة؛ منها:
مترادفات الموت:
يقال للموت: "مَنِيَّة"؛ (بفتح الميم، وكسر النون، وتشديد الياء المفتوحة).
ويُقال له: "المَنُون"؛ (بفتح الميم، وضم النون مخفَّفة).
وهي في الأصل صيغة مبالغة من: "مَنَّ"، بمعنى: قطع.
فالموت منونٌ؛ أي: كثير القطع؛ لأنه يقطع أسباب الحياة.
قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ﴾ [الطور: 30]؛ أي: حلول الموت وحدوثه؛ (القاموس القويم - مجمع البحوث الإسلامية (ج2).
ويقال له: "حِمام" (بكسر الحاء).
ويقال له: "سام"، ومنه قول اليهودي للرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((السام عليكم)).
ويقال له: "مَنى"؛ (بفتح الميم مع القصر).
ويقال له: "شَعُوب"؛ (بفتح الشين، ممنوع من الصرف)؛ لأنه صار علَمًا على المنيَّة.
وسُمِّي الموت أو المَنِيَّة: "شَعُوب"؛ لأنه أو لأنها: "تَشْعَب الخلائق"؛ أي: تفرِّقها.
قال نافع بن لقيط الأسدي في "بحر الكامل":
ذَهَبتْ شَعُوبُ بأهْلِه
إن المَنايا للرجالِ شَعُوبُ
ويقال له: "حَيْن" (بفتح الحاء وسكون الياء)، فيقال: "نزل بفلان الحَيْنُ"؛ أي: الموت والهلاك.
ومن معاني "الموْت والمَنِيَّة"، ما يطلق عليه: "أم قَشْعَم"؛ (بفتح القاف والعين، مع شين معجمة ساكنة بينهما).
قالوا عن الموت:
يقول القرطبي - رحمه الله - في كتابه "التذكرة" (ص24):
"اعلم أن الموتَ هو الخَطْب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس التي طعمُها أكره وأبشع، وأنه الهاذم للذَّات، والأقطع للراحات، والأجلب للكريهات، فإن أمرًا يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك، لهو الأمر الفظيع، والخطب الجسيم، وإن يومَه لهو اليوم العظيم"؛ اهـ.
قال البيهقي - رحمه الله - كما في كتابه "الزهد الكبير" (ص254):
"الموتُ كسوفُ قمرِ الحياة، وخسوفُ شمسها، وهو ليومِ الحياة مساء، والمحسن والمسيء فيها سواء، وهو منتهى راحة قوم، ومبتدأ عذاب آخرين، والموت بين الدنيا والآخرة جسرٌ، لكل أحدٍ معبر عليه، والموت وإن كان للحياة الفانية آخرًا، فهو للحياة الباقية أولاً وصدرًا".
فالموت ليس نهاية المطاف، إنما هو بداية الرحلة الأبدية.
ولو أنَّا إذا مِتنا تُركنا
لكان الموتُ غايةَ كلِّ حيِّ
ولكن إذا متنا بُعِثنا
ونُسألُ بعدَه عن كل شَيِّ
ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه الترمذي من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: ((القبر أولُ منازل الآخرة)).
حقيقة الموت:
ظن البعض في الموت ظنونًا كاذبة، وأوهامًا باطلة:
فظن البعض: أن الموت هو العدم، وأنه لا حشر ولا نشر، ولا عاقبة للخير والشر.
وظن البعض الآخر: أن الميت سيُبعَث، ولكن لا يتنعم بثواب، ولا يتألم بعقاب.
وقال آخرون: "إن الروح باقية لا تنعدم بالموت، وإنما يفنى الجسد، ولا يبعث ولا يحشر، وكل هذه ظنون فاسدة وباطلة"، بل الذي تشهد له طرق الاعتبار، وتنطق به الآيات والأخبار، أن الموت ليس بعدمٍ محض، ولا فناء صرف، وقد عرَّف القرطبي - رحمه الله - الموت كما مرَّ بنا فقال: "إنما هو انقطاعُ تعلُّق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدُّل حال، وانتقال من دار إلى دار"؛ اهـ، (التذكرة: ص 4).
فالروح باقية بعد مفارقة الجسد، وتعاد إليه مرة أخرى في القبر للسؤال والحساب؛ قال - تعالى -: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7].
يقول ابن القيم - رحمه الله - كما في كتابه "الروح" ص 99: "إن الله - عز وجل - جعل لابن آدم ميعادين وبعثين، يَجْزي فيهما للذين أساؤوا بما عَمِلوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فالبعث الأول: مفارقة الروح للبدن، ومصيرها إلى دار الجزاء الأول (القبر).
والبعث الثاني: يوم يردُّ الله الأرواحَ إلى أجسادها، ويبعثها من قبورها إلى الجنَّة أو النار، وهو الحشر الثاني"؛ اهـ.
فالموت: انتقال من دارٍ إلى دار، ونحن خُلِقنا للأبد، لكنَّا نُنقل من دار إلى دار؛ حتى يستقر بنا القرار في جنة نعيمها مقيم أو ضده، نسأل الله الجنَّة، ونعوذ به من النار.
وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: "إنما خلقتم للأبد، وإنما تُنقلون من دار إلى دار"؛ (حلية الأولياء: 5/287).
الموت صفة وجودية وليس عدمًا:
قال ابن أبي العز الحنفي في "شرح الطحاوية" (ص 126):
"الموت صفة وجودية، خلافًا للفلاسفة ومَن وافقهم؛ قال - تعالى -: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور ﴾ [الملك: 2]، والعَدم لا يوصف بكونه مخلوقًا.
وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يؤتَى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيُذبَح بين الجنَّة والنار))، وهو وإن كان عرضًا، فالله - تعالى - يجعله عينًا، كما ورد في العمل الصالح: "أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة"، (وفيه حديث عند الإمام أحمد عن البراء).
وورد في القرآن[1]: "أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون..."، الحديث؛ (ابن ماجه)، الحديث أخرجه أيضًا الإمام أحمد وفيه: ((وإن القرآن يَلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب))، وورد في الأعمال: "أنها توضع في الميزان"، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض.
وورد في "سورة البقرة وآل عمران": أنهما يوم القيامة: ((يُظِلان صاحبهما كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فِرْقان من طير صوافَّ))، وفي "الصحيح": ((إن أعمال العباد تصعد إلى السماء))؛ قال الحسن - رحمه الله - في قوله: ﴿ أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾ [الإسراء: 51]، قال: الموت.
قال الشنقيطي - رحمه الله - في "أضواء البيان" (8/388):
"الآية تدل على أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة؛ لأنه لو كان عدميًّا، لما تعلق به الخَلْق".
[1] قوله: وورد في القرآن؛ أي: ورد في شأن القرآن؛ أي: في شأن قراءة العبد، والمقصود في الحديث، أن عمل الإنسان يأتيه، وأُطلق على القراءة التي هي أفعال العباد قرآنًا، وليس المراد بالقرآن هنا: المكتوب بين دفتي المصحف، ويدل على أنه ليس المراد نفس القرآن: تعدُّدُ المجيء، ويلزم منه الثواب؛ (انظر مجموع الفتاوى: 12/79).
=====
هي اللحظاتُ التي يُفارق فيها الحبيبُ حبيبَه، والخليلُ خليله، ويفارق فيها الولدُ أمَّه، والوالدُ ولدَه، هي اللحظاتُ التي بعدها تُرَمَّل الزوجةُ، وتثكلُ الأمُّ، ويُيَتَّمُ الولدُ.
هي اللحظات التي تُختَم بها حياة الإنسان في الحياة الدنيا، إما بخاتمة حُسنى، وإما بخاتمة سيِّئة، والعياذُ بالله.
هي لحظاتُ الانتقال من الحياة إلى عالم البَرزخ والآخرة، فمَن مات، فقد قامَتْ قيامته.
هي اللحظات التي يَعرق فيها الجبينُ، ويَكثر فيها الأنين، ويَعجز عندها الطبيب، ويَحار فيها اللبيب، ويَكثر فيها البكاء والنحيبُ، هي اللحظات التي تعبِّر عن عُمر مديد، والإنسان عندها شقيٌّ أو سعيد.
هي اللحظات التي ينقطع بها الأملُ، ولا يَصلح بعدها العملُ، وأُمنيَة الكافر بعدها: ﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100].
هي لحظاتٌ طالَما انتظَرها المؤمنُ؛ لأنها تقرِّبه إلى الله، وطالَما خاف منها الفاجر لعظيم ما قدَّمت يداه.
• منذُ الصغر وأنا أحبُّ أن أقرأ عن المحتضَرين وأحوالهم، وأحوالِ مَن حولهم، وأتذكَّر قوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الواقعة: 83 - 87]، فالقراءة عن المحتضرين تُذكِّر بالآخرة، وتُليِّن القلب، وتُدْمِع العين، وتَشحذ هِمَّة المؤمن من جديد.
وبَقِيتُ على هذه الحال، أتتبَّع أخبارَهم في هذا الكتاب وذاك، وكم كانت فرحتي عظيمةً عندما قرأت عنوانًا لكتاب اسمُه: "لحظاتٌ قبل الموت"، وكانت فرحتي أشدَّ عندما عَلِمت أن المؤلفَ هو العلاَّمة محمد خير رمضان يوسف؛ لأن له باعًا طويلاً في هذا المجال، فهو عالم مؤلفٌ بحَّاثةٌ جمَّاعةٌ، فقرأت الكتاب في تسع ساعات، مع أنه 378 صفحة، فالقارئ لا يشعر بالوقت؛ لأنه يعيش تارةً مع الأحياء، وأخرى مع الأموات!
• بدأ المؤلف كتابه بمقدمة أدبيَّة تَسيل من حروفها الدموعُ، جاء فيها: "وهذه مجموعةٌ من أقوال ومواقف وحكايات مَن حضَرَهم الموت، فنَطَقوا بما هو عبرة للآخرين، من خير وشرٍّ، ومن مهانة وكِبْر، ومن سلامة إلى مَذَلَّة، ومن شوق إلى خوفٍ، بل ومن إيمانٍ وكفرٍ؛ حيث يغلب على المحتضَر ما كان حاله في الحياة، ويُبعث على ما مات عليه.
وجاء متنوعًا يفيد أهل الإيمان، والعلم والأدب، ممن يتشوَّق إلى لقاء الله الكريم، وقد جاهَد وعبَد، وقاسى وتَعِب، ثم سدَّد وقارَب، وأحكَم الرَّبط لئلا يَغرق، أو ممن يخاف القدوم عليه، وقد فرَّط وأسرَف، وأنساه النعيم قصْفَ الموت، فغَرق في اللذات، وتمرَّغ في الشهوات، وأجَّلَ التوبة؛ حتى لَم يقدر على النطق بكلمة الإخلاص، أو عَمِلَ وهو ينتظر رحمة الله، ويَخشى أن تفوتَه".
وقد ذكَر المؤلِّفُ أنه بدأ بجَمْع هذا الكتاب بعد أن انتهى من تحقيق كتاب "المحتضرين"؛ لابن أبي الدنيا، وطبعًا ما يميِّز هذا الكتابَ عن كتاب ابن أبي الدنيا، أن ابنَ أبي الدنيا من أعلام القرن الثالث الهجري، فقد ذكر أحوال المحتضَرين إلى عصره فقط، أمَّا كتابنا الذي نتحدَّث عنه، فإن مؤلفه معاصرٌ - أطالَ الله في عُمره - وهذا يعني أنه قد ذكَر أحوال المحتضرين، وآخرَ لحظات حياتهم إلى القرن الخامس عشر الهجري.
• بعد مقدمة الكتاب المُحزنة المُبكية، أتى المؤلفُ بآيات تتحدث عن الاحتضار؛ منها: قولُه تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100]، ثم بأحاديثَ في الاحتضار.
وانتقَل إلى الحديث عن المحتضرين، فبدأ بما قبل الإسلام، كسيدنا نوح، وذي القرنين، ولقمان الحكيم، وامرئ القيس، وحاتم الطائي، وزهير بن أبي سلمى، ثم تحدَّث عن القرن الأول، فالثاني، فالثالث......، فالخامس عشر.
وسنكتفي بذِكر مثالٍ على كُلِّ قرنٍ، وقد اخترتُها مختصرةً، وأحيانًا آخُذ موقف الاحتضار فقط، وأحيانًا يكون الموقفُ حُسْنَ خاتمةٍ لصاحبه، وأحيانًا يكون سوءَ خاتمةٍ والعياذ بالله، هذا مع ذِكْر رَقْم الصفحة والعنوان الذي وضعَه المؤلف:
ما قبل الإسلام: حائرٌ، لَم يطمئنَّ قلبُه بالإيمان.
قيل لرجل من الماضين: كيف وجدتَ الأمرَ؟
قال: دخلتُ الدنيا جاهلاً، وعِشت متحيِّرًا، وخرَجت منها كارهًا؛ ص (12).
القرنُ الأول: لا تَبكوا عليَّ:
أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب، أخو رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الرضاعة، أرْضَعته حليمةُ السعديَّة، لَمَّا حضَرته الوفاةُ، قال لأهله: لا تبكوا علي، فإني لَم أتنطَّق بخطيئة منذ أسْلَمْت؛ ص (38).
القرن الثاني: الحسن البصري:
أُغْمِي عليه عند مَوْته، ثم أفاقَ، فقال: لقد نبَّهتموني من جناتٍ وعيون ومقام كريم؛ ص (83).
القرن الثالث: المنتصر بالله:
أنشدَ الخليفةُ المنتصر العباسي لَمَّا حضَرته الوفاةُ:
وَمَا فَرِحَتْ نَفْسِي بِدُنْيا أَخَذَتُهَا
وَلَكِنْ إِلَى الرَّبِّ الْكَرِيمِ أَصِيرُ؛
ص (146).
القرن الرابع: حارسٌ أمينٌ:
قيل للكناني لَمَّا حضَرَته الوفاةُ: ما كان عملُك؟
فقال: لو لَم يَقترب أجَلي ما خبَّرتكم به! وقَفت على باب قلبي أربعين سنة، فكلما مرَّ فيه غيرُ الله، حَجَبتُه عنه؛ ص (187).
القرن الخامس: جبلان من نار:
احتَضَر رجلٌ، فإذا هو يقول: جبلان من نار، جبلان من نار!
فسُئِل أهلُه عن عمله، فقالوا: كان له مكيالان، يَكيل بأحدهما، ويَكتال بالآخر؛ ص (205).
القرن السادس: العِماد المقدسي:
حُكي عنه أنَّه لَمَّا جاءه الموتُ، جعَل يقول: يا حيُّ يا قيُّوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، واستقبَل القبلة وتشهَّد؛ ص (225).
القرن السابع: الإمام النووي:
رُوِي أنَّ الإمام النوويَّ - رحمه الله - أنشَد أبياتًا عند الوفاة، منها هذان البيتان، وزِيدَ ما بعدهما:
تَبَاشَرَ قَلْبِي فِي قُدُومِي عَلَيْهِمُ
وَبِالسَّيْرِ رُوحِي يَوْمَ تَسْرِي إِلَيْهِمُ
وَفِي رِحْلَتِي يَصْفُو مَقَامِي وَحَبَّذَا
مَقَامٌ بِهِ حَطُّ الرِّحَالِ لَدَيْهِمُ
وَلاَ زَادَ لِي إِلاَّ يَقِينِي بِأَنَّهُمْ
لَهُمْ كَرَمٌ يُغْنِي الوُفُودَ عَلَيْهِمُ؛
ص (234).
القرن الثامن: شحَّاذون وتُجَّار:
قال ابن القَيِّم - رحمه الله:
أخبَرني مَن حضَر بعض الشحَّاذين عند مَوْته، فجعَل يقول: لله فُليس، ولله فُليس، حتى قضى، وكذلك تاجر يقول: هذه القطعة رخيصةٌ؛ ص (142- 143).
القرن التاسع: عبدالرحيم البرعي:
قال - رحمه الله - عندما مَرِض مرَضَ الموت وهو في طريقه إلى الحج:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي
هَيَّجْتُمُ يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
والقصيدة خمسة عشر بيتًا؛ ص (148 - 149).
القرن العاشر: نفسُه رهينة:
عالم مالكي، اسمه زينُ بن أحمد الجيزي، كان يلحُّ في الدعاء أن يختمَ عُمره بحَجَّة، فتوفى منصرفه من الحج والزيارة سنة 977هـ، وكان يُنشد بعد هذه الحَجَّة كثيرًا:
أَصْبَحَتْ نَفْسِي رَهِينَه
بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَهْ؛
ص (161- 162).
القرن الحادي عشر: يُحب ربَّه:
شيخٌ صالح من دمشق اسمُهُ علي بن عمر العقبي، سُمِع يقول وهو في سكرات الموت: يا سيِّدي، يا حبيبي يا ربي: والله إنَّك لتَعْلم أني أحبُّك، ثم مات عشيَّة ذلك اليوم؛ ص (162).
القرن الثاني عشر: شَهِد الله:
الشيخ أحمد بنُ عبداللطيف التونسي، بدأ في قراءة ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ [آل عمران: 18] إلى آخر الآية، ثم سلَّم الرُّوحَ إلى بارئها؛ ص (168).
القرن الثالث عشر: عالِمٌ مسمومٌ:
عالم من مدينة صبياء بالسعودية، وضَع له مَن كان يظنُّه صديقًا سُمًّا في مشروب قدَّمه له، فقال موريًا:
سَأَلْتُ النَّاسَ: هَلْ سُمِّي طَبِيبِي
لِعِلَّتِيَ الَّتِي أَضْنَتْهُ مِمَّا
وَمَا النَّوْعُ الَّذِي أَضْنَى عِظَامِي
وَقَدْ وَهَنَتْ فَقَالَ النَّاسُ: سُمَّا؟
ص (271).
القرن الرابع عشر: مستشرقٌ:
المستشرق الألماني أروين جراف متخصِّصٌ في الفقه الإسلامي، ألقى محاضرةً في جامعة توبنجن بعنوان: "تصوُّرات الموتِ في إطار الأنثروبولوجيا الإسلاميَّة"، وعلى إثرها توفِّي؛ ص (196).
القرن الخامس عشر: أنور الجندي:
مُفَكِّر وكاتبٌ، وداعية إسلامي كبيرٌ، مَرِض مرضًا شديدًا قُبيل وفاته، وكان آخرَ ما قاله: "يا رسولَ الله، أنا أنورُ الجندي قادِم إليك من الصعيد"، وبشهادة طبيبه الخاص مات وهو يصلي مضطجِعًا على شِقِّه الأيمن؛ ص (330).
هذا وقد ختَم المؤلفُ كتابَه بفهرس للأعلام المحتَضَرين، ثم بفهرس للموضوعات.
وختامًا: أسأل الله العليَّ القدير أن يُحسِن خِتامنا جميعًا، وأن نَلقاه وهو عنا راضٍ، إنه سميع قريب مجيب.
===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أمراض القلوب وشفاؤها ابن قيم الجوزية

  شبكة مشكاة الإسلامية أمراض القلوب وشفاؤها ابن قيم الجوزية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور ...