حمل المصحف بأربع صيغ

حمل المصحف

السبت، 22 أكتوبر 2022

سلسلة خطب الدار الآخرة (11) البعث والنشور {4 خطب}

سلسلة خطب الدار الآخرة (11) البعث والنشور {4 خطب} من الالوكة


سلسلة خطب الدار الآخرة (11)
البعث والنشور
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرةً وباطنةً ليشكروه، وبيَّن لهم طريق الحق والخير ليسلكوه، وحذرهم طريق الشر والضلال ليجتنبوه، ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾ [الأنعام: 153]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ﴾ [الأنعام: 102]، وأشهد أن محمدًا عبدالله ورسوله ومصطفاه، اختاره الله تعالى واجتباه، وقربه إليه وأدناه، ورفع ذكره وأعلاه، وآتاه الوسيلة والفضيلة والشفاعة وأرضاه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلم تسليمًا كثيرًا لا حد لمنتهاه؛ أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حق التقوى، وقدِّموا أمر الآخرة على أمر الدنيا، فالرابح من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، ومن كان له من نفسه واعظ، كان له من الله حافظ، ومن أصلح أمر آخرته، صلح له أمر دنياه، ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 124].
معاشر المؤمنين الكرام، هذه هي الحلقة الحادية عشرة من سلسلة دروس الدار الآخرة، وكنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية عن قيام الساعة وأهوالها، وفي هذه الحلقة سنتحدث بعون الله عن بداية يوم القيامة، وعن بعث الناس من قبورهم، فما الفرق بين الساعة والقيامة؟ الساعة هي آخر أيام الدنيا، وبداية خرابها وفنائها، بينما يوم القيامة هو بداية أحداث الدار الآخرة، الساعة - كما مر معنا - زلزال مروع ودمار هائل، وأما يوم القيامة فهدوء وسكون، ﴿ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴾ [طه: 108]، الساعة تقوم على هذه الأرض وهذه السماوات، بينما يكون يوم القيامة على أرض وسماء مختلفة، سيأتي الحديث عنها؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48]، الساعة تبدأ بالنفخة الأولى: نفخة الصعق والموت، بينما يوم القيامة يبدأ بالنفخة الثانية: نفخة البعث والحياة، وبينهما - كما جاء في الحديث أربعون - الساعة تقوم على آخر الأحياء فتميتهم، ويوم القيامة يقوم على أموات يبعثون من قبورهم، أحبتي الكرام: قضية البعث والنشور هي أكثر القضايا جدلًا بين الأنبياء وأقوامهم، ﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ﴾ [النحل: 38]، فهل يعقل أن يعيش أناس حياةً كلها ظلم وجبروت وطغيان، ويعيش البعض الآخر حياةً كلها بر وخير وإحسان، ثم يموت الفريقان، وتنتهي قصتهم دون أن يُعاقَب المسيء، أو يُكافأ المحسن؟ فأين الحكمة؟ وأين العدل؟ تأملوا يا عباد الله، فكثيرًا ما طالب القرآن البشر أن يُعمِلوا عقولهم ويتفكروا في خلق السماوات والأرض، وفي خلق أنفسهم، وكيف أحكم الله خلقه في أحسن تقويم، ثم إن من تمام الخلق تمام الحكمة، ومن تمام الحكمة تمام العدل، فحكمة الله تعالى تتنافى مع العبث؛ تأمل: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾ [المؤمنون: 115]، ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]، لا شك أن عدل الله المطلق يستوجب حياةً أخرى، ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31]؛ ولذا يقول تعالى عن يوم القيامة: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾ [غافر: 17]، ولقد أقسم الله جل وعلا على بعث الناس ليوم الجزاء والحساب؛ فقال تعالى: ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [التغابن: 7]، فكفر المشركين وتكبرهم على الحق غطى على قلوبهم، وعلى سمعهم وأبصارهم؛ تأمل: ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146]؛ ولذا فهم بعد فوات الأوان يقولون: ﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [الملك: 10]، واللافت للنظر يا عباد الله أن الله تعالى كثيرًا ما يضرب مثلًا لإحياء الموتى وبعثهم في يوم القيامة، بإحياء الأرض بعد موتها في الدنيا؛ تأمل: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ [فاطر: 9]، وقال تعالى: ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ [الروم: 19]، وتأمل كيف ربط الله تعالى خلق الإنسان من تراب، بالبعث والنشور؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ﴾ [الحج: 5]، فإذا كنا نرى في كل وقت إحياء الله للأرض بعد موتها، ولو مضى عليها مئات السنين، فكذلك الإنسان المخلوق من تراب، سيحييه الله بنفس الطريقة؛ تأمل: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57]، وذكرنا سابقًا أن الله تعالى يميت الخلائق كلها في نفخة الصعق الأولى إلا من شاء سبحانه؛ قال تعالى: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ﴾ [الزمر: 68]، وجاء في صحيح البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما بين النفختين أربعون، قالوا: يا أبا هريرة، أربعون يومًا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنةً؟ قال: أبيت، ثم ينزل الله من السماء ماءً فينبتون، كما ينبت البقل – أي: الزرع - قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إلا عظمًا واحدًا، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة))، وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: ((إن في الإنسان عظمًا لا تأكله الأرض أبدًا، منه يركب الخلق يوم القيامة، ‏قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: عجب الذنب، وعجب الذنب عظم دقيق جدًّا في أسفل العصص، ووظيفته والله أعلم كالبذرة للنبات، وورد في حديث حسنه الإمام الترمذي وضعفه الشيخ الألباني: ((ثم ينزل الله تعالى عليهم ماءً من تحت العرش، ثم يأمر الله السماء أن تمطر، فتمطر أربعين يومًا حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعًا؛ أي: إن هذا الماء يصل إلى كل جزء من الأرض؛ كما قال تعالى: ﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 148]، وقال تعالى: ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 47]، ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت فتنبت كالبقل، وورد فيه أيضًا: ((ثم يقبض الله الأرواح جميعًا ثم يلقيها في الصور، ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث، فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فيقول الله: وعزتي وجلالي، ليرجعن كل روح إلى جسده، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد، فتدخل في الخياشيم ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السم في اللديغ، ثم تنشق الأرض عنهم، وأنا أول من تنشق الأرض عنه، فتخرجون سراعًا حفاةً عراةً غرلًا إلى ربكم تنسلون))؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ ﴾ [ق: 44]، بارك الله لي ولكم.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده الذين اصطفى؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
معاشر المؤمنين الكرام: قد يسأل سائل فيقول: وأين تكون الأرواح بعد الموت؟ وخلاصة كلام الصحابة والتابعين أن أرواح المؤمنين في عليين، وأن أرواح المشركين في سجين، ووردت أخبار متنوعة توضح أن أماكن الأرواح بحسب منزلة أصحابها، فأرواح الأنبياء في أعلى عليين، وأرواح الشهداء والمؤمنين في جوف طير خضر، تسرح من الجنة حيث شاءت، ومنهم من تحبس روحه عند باب الجنة كالمديون، وأرواح العصاة تعذب كما جاء في حديث تنور الزناة، ومن ينام عن الصلاة، ومن يأكل الربا عياذًا بالله، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السفلى، وأما ما يتعلق بأرض المحشر؛ فيقول الله جل وعلا عنها: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1 - 5]، مُدت: أي: بُسطت وسُويت كمد الأديم، وألقت ما فيها: أي: لفظت ما في جوفها من أجساد الموتى، وتخلَّت: أي: خلا ما في جوفها، فلم يبقَ فيه أحد إلا خرج إلى سطحها؛ وجاء في حديث حسن: قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وزيد في سعتها))، فالأرض إذًا ستمد مدًّا عظيمًا، وتصير مستويةً ملساء صلبة، لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، وذلك لكي تسع جميع المخلوقات من جن وإنس وحيوان؛ جاء في صحيح البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يجمع يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر))، الكل سواسية لا تمايز بينهم، إذ لم يبق معهم من متاع الدنيا شيء، ولا حتى ما يستر به جسده العاري، لا مال ولا منصب، ولا جاه ولا قرابة ولا نسب، ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ [الأنعام: 94]، وحين يبدأ البشر بالخروج من باطن الأرض يبهتون بما يرون، ويتفاجؤون ويتحيرون، فالأرض غير الأرض، والحال غير الحال، وأول ما يقوله الكفار حين يتبينون الحقيقة، قولهم: يا ويلنا؛ تأمل: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [يس: 51، 52]، وقال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [الروم: 12]؛ أي: يتحيرون، وأما المؤمنون فيثبتهم الله؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 103]، وحينما تذهب روعة الموقف، يتذكر كل إنسان من هو، وما هي الحال التي كان عليها من قبل؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى ﴾ [النازعات: 35]، وفي هذه اللحظات الحاسمة، تتضاءل تلك الحياة التي عاشها الإنسان، فلا تساوي أكثر من ساعة من الزمن، ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 46]، ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ [الروم: 55]، تخيلوا - يا عباد الله - رجلًا يعيش في قمة النعيم والترف، وحين ركب طائرته مسافرًا، سقطت به في صحراء قاحلة، حيث لا ماء ولا طعام ولا ظل، فلو استمر فيها يومًا أو يومين فسيبلغ به العطش مبلغًا عظيمًا، حتى يرى أن كل ما عاشه من نعيم وترف كالوهم والسراب، لا يتجاوز ساعةً من نهار، فإذا جاز هذا في أحوال الدنيا، فكيف بأهوال يوم القيامة؟
فاتقوا الله عباد الله؛ فالبعث والنشور حقيقة مطلقة ثابتة، تدل على قدرة الخالق جل وعلا، وأن بعد الحياة موتًا، وبعد الموت بعثًا وحياة، فلا بد أن نستعد لذلك البعث وتلك الحياة، ﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ﴾ [المدثر: 9]، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، ﴿ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 16، 17]، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [غافر: 52]، ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾ [الانفطار: 19]، ﴿ ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا ﴾ [النبأ: 39]، ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ [الإنسان: 29].
ويا ابن آدم، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا يُنسَى، والديان لا يموت، وكما تدين تُدان، اللهم صل على البشير النذير.
=====
سلسلة خطب الدار الآخرة (2)
كيف بدأ الخلق
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ دبَّرَ بحكمته شؤونَ العباد، وأوضحَ برحمته سبيلَ الرشاد، وقهرَ بحُجَّته أهلَ الزيغِ والعناد، ﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: 23]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، تنزَّهَ عن الأشباهِ والأضداد والأنداد، ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].
وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، ومصطفاهُ وخليلُه، أنصَحُ مَن وَعَظَ، وأوْعظُ من نَصَحَ، وأعْبدُ من تَقربَ، وأقْربُ من تَعبدَ، وأزْكى من تَرقَّى، وأرْقى من تَزكَّى، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبهِ، معالمِ الهُدى، ومصابيحِ الدُجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ واقْتدى، وكل من سارَ على نهجِهم واقْتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: ولا يأتي بعد (أما بعد) إلا الوصية بالتقوى، وما هي التقوى؟ التقوى كما عرَّفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هي الخوفُ من الجليل، والعملُ بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعدادُ ليوم الرحيل، والتقوى كما وصفها ابن المعتز:
خَلِّ الذنوبَ صغيرَها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكبيرَها ذاك التُّقى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
واصنَعْ كماشٍ فوق أر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ضِ الشوكِ يَحذَرُ ما يرى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لا تحقرنَّ صغيرةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إنَّ الجبال من الحصى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والتقوى من الوقاية؛ أي: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقايةً، قال تعالى: ﴿ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 11، 12]، جعلني الله وإياكم من المتقين.
معاشر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقةُ الثانية من سلسلة دروسِ الدارِ الآخرةِ، وكُنَّا قد ذكرنا في الحلقة الماضيةِ أنَّ الإيمانَ باليوم الآخرِ ركنٌ من أركان الإيمان، لا يصحُ إيمانٌ بدونه، وأنَّ الآخرةَ هي الأصل، وهيَ الخلود، وهي الحياةُ الحقيقية، وأنَّ الدنيا امتحانٌ مؤقتٌ للبشر، يعودونَ بعدها ليخلَّدُوا في الآخرة، فمن الواجبِ معرِفةُ أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من التفاصيل عن تلك الحياةِ الخالدة، وذكرنا أيضًا أنَّ من فوائدِ ذلك ترقيقَ القلوبِ، وضبطَ السلوك، وأنَّ أشراطَ الساعةِ وعلاماتِ قربها بمثابةِ أجراسِ الخطر، التي توقظُ النائم، وتنبهُ الغافل، وتتوعدُ المعرض، وذكرنا أنَّ الإيمانَ بالآخرةِ يُهونُ ألم المصائبِ، ويمنحُ الرضا والطمأنينةَ فلا يجزعُ ولا ينهار.
أحبتي الكرام: انطلاقًا من التوجيه القرآنيِّ الكريم: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [العنكبوت: 20]، فهناك أولًا أمرٌ بالنظر إلى بداية الخلقِ، ثمَّ رَبطُ ذلك بقيام الساعةِ وبدايةِ الآخرة، ودَلالة ذلك على عظمةِ الله تبارك وتعالى، وأنه على كل شيءٍ قدير.
تأمَّلوا يا عباد الله: فلقد أكَّد المولى جلَّ وعلا قيامَ الساعةِ في آياتٍ كثيرة، وتكرر كثيرًا قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا ﴾ [الحج: 7]، وأكدَّ سبحانه أنهُ هو وحدهُ فقط من يعلمُ متى تقوم، وأنَّها لا تأتي إلا بغتةً، فقال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ﴾ [الأعراف: 187]، لكنه تبارك وتعالى من رحمته حذَّرهم في أكثر من موضعٍ أنَّها قريبةٌ، فقال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ [الشورى: 17]، بل وأخبرنا جلَّ وعلا أنَّ هناك علاماتٍ وأماراتٍ ستقعُ قبل قيامِها، تدلُ على قُرب وقوعها، فقال تعالى: ﴿ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ﴾ [محمد: 18]، وهذه الأماراتُ أو الأشراطُ جاءَ تفصِيلُها في أحاديثَ كثيرةٍ، سنذكرُ بإذن اللهِ شيئًا منها في الحلقة القادمة.
فالذي نفهمهُ من الآياتِ السابقة: أنَّ الساعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها، وأنَّها لا تأتي إلا بغتةً، وأنَّهُ لا يَعلمُ وقتَ قيامِها إلا اللهُ وحدَهُ فقط، وأنَّ قيامَها قريبٌ، وأنَّ هناك علاماتٍ وأماراتٍ ستقعُ قبلَها، تدلُّ على قُربِ قيامها.
فلنتأمل أيَّها الكرام: فالآياتُ التي تتحدثُ عن قُربِ قيامِ الساعةِ نزلت قبلَ أكثرَ من ألف وأربعمائة عام، ومعنى هذا أنَّ هذه الفترةَ وإن كنَّا نراها طويلةً فهي قصيرةٌ جدًّا في تقدير الله تعالى، وقصيرةٌ بالنسبة لعُمر الدنيا، تأمَّل: ﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا* إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا ﴾ [المعارج: 4 - 7]، ويقول جلَّ وعلا ردًّا على من يستعجلُ بالعذاب: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾، فميزانُ التقديرِ مختلفٌ جدًا، فنحنُ نقدرُ طولَ الزمنِ وقِصرةِ بالنسبة لأعمارنا التي لا تتجاوزُ المائةَ سنة، وعن نشأة الكون يخبرنا القرآنُ الكريم أنَّ السمواتِ والأرضَ كانتا شيئًا واحِدًا ثم انفتَقَ، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنبياء: 30]، والقرآنُ الكريم يبين أنَّ أصلَ السمواتِ والأرضَ كان دُخانًا، يقول الحقُّ جل وعلا: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11]، والقرآنُ الكريمُ كذلك يخبرنا أنَّ الكونَ في حالة تمدُّدٍ وتوسُّعٍ مُستمر، قال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [الذاريات: 47]، والقرآنُ الكريمُ أيضًا يخبرنا أنَّ الكونَ سيُطوى ليعودَ كما بدأ، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104]، والقرآنُ الكريمُ أيضًا يخبرنا أنَّ السمواتِ والأرضَ سوفَ تُبدلُ بسمواتٍ وأرضٍ جديدة، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48].
فلا إله إلا الله: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الزمر: 67].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ﴾ [الشورى: 17، 18]، بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين.
معاشر المؤمنين الكرام: تكلم علماء الفلك عن نشأة الكونِ ومراحل تكونه كثيرًا، إلا أن فهم ذلك وتصوره لا يزالُ صعبًا جدًّا، نظرًا لأنَّ الأزمنةً التي تَفصِلُ كُلَّ مرحلةٍ عن الأخرى طويلةٌ جدًا، ولا يمكنُ إدراكُها وتصورها، ونحن نؤمن بما جاء عن الله ورسوله في ذلك؛ ولنتأملَ ما قالهُ الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم قبلَ ألفٍ وأربعمائة عام، ففي صحيح الإمام مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيَدِي فَقالَ: ((خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَومَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الجِبَالَ يَومَ الأحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَومَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ المَكْرُوهَ يَومَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَومَ الأرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَومَ الخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عليه السَّلَامُ بَعْدَ العَصْرِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ، في آخِرِ الخَلْقِ، في آخِرِ سَاعَةٍ مِن سَاعَاتِ الجُمُعَةِ، فِيما بيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ)).
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّما أجَلُكُمْ في أجَلِ مَن خَلا مِنَ الأُمَمِ، كما بيْنَ صَلاةِ العَصْرِ ومَغْرِبِ الشَّمْسِ، ومَثَلُكُمْ ومَثَلُ اليَهُودِ والنَّصارَى، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا، فقالَ: مَن يَعْمَلُ لي إلى نِصْفِ النَّهارِ على قِيراطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، فقالَ: مَن يَعْمَلُ لي مِن نِصْفِ النَّهارِ إلى العَصْرِ علَى قِيراطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصارَى، ثُمَّ أنتُمْ تَعْمَلُونَ مِنَ العَصْرِ إلى المَغْرِبِ بقِيراطَيْنِ قِيراطَيْنِ، قالوا: نَحْنُ أكْثَرُ عَمَلًا وأَقَلُّ عَطاءً! قالَ: هلْ ظَلَمْتُكُمْ مِن حَقِّكُمْ؟ قالوا: لا، قالَ: فَذاكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَن شِئْتُ)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُعثتُ أنا والسَّاعةُ كهاتَيْن - وجمع بين السَّبَّابةِ والوُسطَى))؛ متفق عليه.
أيها الكرام: أردتُ مما سبقَ أن أبينَ نقطةً جوهريةً مهمة: وهي أنَّ الحقائقَ العلمية التي اكتُشفت أو التي ستُكتشف فيما بعد لم ولن تتعارضَ مع حقائقِ القرآنِ وما صح من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
وثانيًا: أنَّ كلَّ ما جاءَ في القرآن الكريمِ وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الصحيحة من حقائقَ حولَ الساعة وقُربِ وقوعِها، إنما هو تحذيرٌ وإنذارٌ للعباد ألا يغفلوا عن هذه النهاية القريبة، قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 1]، ﴿ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [مريم: 39].
وثالثًا: أنَّ من يؤمنُ بهذه الحقائقِ ويسيرُ على هديها، ويتذكرها ولا يغفل عنها، فهو من المهتدين المفلحين، تأمَّلوا: ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 1 - 5].
ويا بن آدم، عش ما شئتَ فإنك ميت، وأحبب من شئتَ فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، البِرُّ لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
اللهم صل محمد..
=====
سلسلة خطب الدار الآخرة (3)
الأشراط التي ظهرت وانتهت
الحمدُ للهِ الذي بيده الإفناءُ والإنشاءُ، والإماتةُ والإحياءُ، والعافيةُ والبلاءُ.. سبحانهُ وبحمده، خزائنهُ ملأى، ويمينهُ سحّاءَ، ويَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ، ولا يتعاظمُه عطاء، ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ [هود: 7]. وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ، يفعــلُ مـا يُريـدُ، ويحـكُــمُ ما يشــاءُ، و﴿ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]. وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، إمامُ الأنبياءِ، وصفوةُ الأولياءِ صلى الله عليه وسلم عليهِ، وعلى آله الســادةِ النجبــاءِ، وصحــابتهِ الــبررةِ الأتقيــاءِ، والتابعينَ، وتابعِيهم بإحسانٍ، مادامتْ الأرضُ والسماءُ، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أمَّا بعدُ:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، حقَّ التقوى، فمن اتقى اللهَ وقَاهُ، ومن توكَّلَ عليهِ كفاهُ، ومن استعاذَ به حماهُ، ومن أوى إليه آواهُ، ووفقه وهداه، ﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 257].
معاشرَ المؤمنينَ الكرام: هذه هيَ الحلقةُ الثالثةُ من سلسلة خطب الدارِ الآخرةِ، وكُنَّا قد ذكرنا في الحلقة الماضيةِ أنَّ القرآنَ الكريم أكدَّ مرارًا أنَّ الساعةَ آتية، وأنَّها لا تأتي إلا بغتةً، وأنَّهُ لا يَعلمُ وقتَ قيامِها إلا اللهُ وحدَهُ فقط، وإنَّ قيامَها قريبٌ، وأنَّ هناك علاماتٍ وأماراتٍ ستقعُ قبلَها، تدلُ على قُربِ قيامها.. وذكرنا أنَّ تقديرِنا للزمن نسبيٌّ، فما نراهُ بعيدًا هو في الحقيقة قريبٌ جدًا.. وذكرنا أنَّ أشهرَ النظرياتِ حولَ نشأةِ الكونِ ومراحلِ تكِّونِه، وما قالوهُ عن نهايتهِ الحتميةِ، يتوافقُ بعضُه مع حقائقِ القرآنِ الكريم ومع الأحاديثِ النبوية الصحيحةِ..
أحبتي الكرام: لقد كانَ أهمُّ الدروسِ التي أردنا أنَّ نخرجَ بها من الخُطبةِ الماضيةِ: هو أنَّ الحقائقَ العلميةَ الثابتةَ لمْ ولنْ تتعارضَ مع حقائقِ القرآنِ الكريم: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
أمَّا أهمُّ الدروسِ التي نتمنى أنَّ نخرجَ بها من هذه السلسلة عُمومًا فهو التذكيرُ بقُرب قيامِ الساعة، وأنَّنا بحاجةٍ كبيرةٍ وعاجلةٍ لأن نتزودَ لها كثيرًا، ونستعِدَ لها جيدًا، فهي المآلُ والمستقر، وفيها البقاءُ الأبدي السرمدي.. وهو نفسُ الغرضِ الأساسي للآيات الكريمةِ والأحاديثِ الشريفةِ التي تتحدثُ عن قيامِ الساعةِ، وعن قُربِها، وعن الأحداثِ والوقائعِ التي تسبِقُ قيامها، أو ما يسميهِ العلماءُ بعلامات الساعةِ وأشراطِها، فالعلاماتُ أو الأماراتُ، أو الأشراطُ هي الأحداث التي أخبرنا اللهُ تباركَ وتعالى، أو نبيُه صلى الله عليه وسلم أنها ستقعُ في المستقبل، والتي تدلُ على قُرب قيامِ الساعةِ..
أيَّها الأحبةُ الكرام: علاماتُ الساعةِ وأشراطُها كثيرةٌ جدًّا، جاءَ بعضُها في القرآن الكريم، وجاءَ أكثرها في الأحاديث الشريفة؛ فعَنْ أَبي زَيْدٍ عمْرُو بنِ أخْطَبَ الأنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَال: صلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم الْفَجْر، وَصعِدَ المِنْبَرَ، فَخَطَبنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَل فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنْبَر حَتَّى حَضَرتِ العصْرُ، ثُمَّ نَزَل فَصَلَّى، ثُمَّ صعِد المنْبر حتى غَرَبتِ الشَّمْسُ، فَأخْبرنا مَا كان ومَا هُوَ كِائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أحْفَظُنَا؛ رواهُ مُسْلِمٌ.
وفي صحيح مسلمٍ أيضًا، عن حُذيفةَ بن اليمان رضيَ اللهُ عنهُ قال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا، ما تَرَكَ شيئًا يَكونُ في مَقَامِهِ ذلكَ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ، إلَّا حَدَّثَ به، حَفِظَهُ مَن حَفِظَهُ وَنَسِيَهُ مَن نَسِيَهُ، قدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، وإنَّه لَيَكونُ مِنهُ الشَّيْءُ قدْ نَسِيتُهُ فأرَاهُ فأذْكُرُهُ، كما يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إذَا غَابَ عنْه، ثُمَّ إذَا رَآهُ عَرَفَهُ"..
وقد قسَّم أهلُ العلمِ علاماتِ الساعةِ إلى قسمين: صُغرى وكُبرى، وهذا التقسيمُ ليسَ من حيثُ ضخامةِ الحدث، وإنما سُميت العلاماتُ الصغرى بالصغرى لأنها الأبعدُ زمنًا عن قيام الساعة، ولأنَّ نطاقَ أثرها محدود، فيشعرُ بها قومٌ دونَ قوم، ولأنَّ دِلالتِها على قُرب الساعةِ، أقلَ مِن دِلالة العلاماتِ الكبرى، فالعلاماتُ الكبرى شديدةُ القُربِ من قيام الساعةِ، ودِلالتُها على قُربِ القيامةِ كبيرٌ وواضحٌ، وتأثيرُها يعُمُ الأرضَ جميعًا.. والمتأمِّلُ في العلاماتِ عُمومًا، يجدُ أنَّها غالبًا ما تدورُ حولَ غُربةِ الدين، وعن تناقُصِ الخيرِ وأهلهِ، وتكاثُرِ الشَّرِ وأهلهِ، وعن ظهورِ الفتنٍ الجديدةِ وتزايُدِها.
ويلاحِظُ كذلك أنهُ كُلَّما تقدمَ الزَّمنُ ازدادت العلاماتُ كثرةً، وقويت دِلالتُها، وتسارعَ تتابُعها، وتقاربَ زمانها، واتسعَ نِطاقَ تأثيرها، حتى إذا ظهرت العلاماتُ الكبرى، كانت كخرزاتِ سلكٍ انقطع، فتتابعت سريعًا، وعمَّ أثرُها الأرضَ جميعًا، ودلَّ ذلك على أنَّ القيامةَ وشيكةٌ جدًا.. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْآيَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ فِي سِلْكٍ، فَإِنْ يُقْطَعِ السِّلْكُ يَتْبَعْ بَعْضُهَا بَعْضًا"؛ صححه الألباني.
قال العلماء في شرحها أنَّ علاماتِ الساعَةِ الكُبرَى، تخرُجُ مُتتابِعَةً لا يَفصِلُ بينهُنَّ فاصِلٌ طويلٌ.. والمقصود بالعلامات الكبرى هي العلاماتُ التي جمعها حديثُ حذيفةَ بن أُسيدٍ في صحيح مسلمٍ، قال: اطَّلَع النبيُّ صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتَذاكَرُ فقال ما تَذكُرونَ قالوا نَذكُرُ الساعةَ قال إنها لن تَقومَ حتى ترَوا قبلَها عشْرَ آياتٍ فذَكَر الدُّخانَ والدجَّالَ والدابَّةَ وطُلوعَ الشمسِ من مَغرِبِها ونُزولَ عيسى ابنِ مريمَ صلى الله عليه وسلم ويَأجوجَ ومَأجوجَ وثلاثَ خُسوفٍ خَسفٌ بالمَشرِقِ وخَسفٌ بالمَغرِبِ وخَسفٌ بجزيرةِ العربِ وآخِرُ ذلك نارٌ تَخرُجُ من اليمَنِ تَطرُدُ الناسَ إلى مَحشَرِهم"، هذه هي العلاماتُ الكبرى، ويُلحقُ بها علاماتٌ أخرى سنتحدث عنها بإذن الله في حينها..
أما إذا أردنا أن نُقسِّمَ العلاماتِ من حيثُ ترتيبِ ظهورها، فيمكنُ أن يكونَ التقسيمُ على النحو التالي:
أولًا: علاماتٌ ظهرت وانتهت.
ثانيًا: علاماتٌ ظهرت وما زالت مُستمرة.
ثالثًا: علاماتٌ لم تظهر بعدُ..
رابعًا وأخيرًا: العلاماتُ الكبرى..
وسنتحدثُ عن القسم الأولِ في الخطبة الثانيةِ بإذن الله وتوفيقه..
فبارك الله لي ولكم..
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده اللذين اصطفى.. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وكونوا مع الصادقين.
معاشرَ المؤمنين الكرام، القِسمُ الأولُ من علامات الساعةِ، علاماتٌ ظهرت وانتهت، وأولُ تلك العلامات: بعثةُ النبي صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاةُ والسلام خاتمُ الأنبياء والمرسلين وآخرهم، وأقربهم ليوم القيامة، إذ لا نبيَ ولا رسالةَ بعدهُ، وقد ثبتَ في الصحيح أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بُعثتُ أنا والسَّاعةِ كهاتَيْن وجمعَ بين السَّبَّابةِ والوُسطَى".
والعلامةُ الثانيةُ من العلامات التي ظهرت وانتهت: انشقاقُ القمرِ، ففي مُحكم التنزيل، يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1]، وعن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه، قال: انْشَقَّ القَمَرُ علَى عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شِقَّتَيْنِ، فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: « اشْهَدُوا »؛ متفق عليه.
والعلامةُ الثالثةُ إلى السادسة: أربعُ علاماتٍ جمعها حديثٌ واحدٌ، ففي صحيح البخاري، عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَةِ تَبُوك وهو في قُبَّةٍ مِن أَدَمٍ، فَقالَ: "اعْدُدْ سِتًّا بيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثُمَّ مُوتَانٌ يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاصِ الغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ المَالِ حتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِئَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا،... إلى آخر الحديث.
فالعلامةُ الثالثة: مَوتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في العام العاشر للهجرة، والعلامةُ الرابعة: فَتحُ بَيتِ المَقدِسِ، وقد تمَّ في عَهدِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، في العام الخامِسِ عشر للهجرة، والعلامةُ الخامسة: مُوتانٌ كَقُعاصِ الغَنَمِ، موتان: أي موتٌ كثير، والقُعاصُ داءٌ يُصيبُ الغَنَمَ، فيقضي عليها سريعًا، والمقصودُ به طاعونُ عَمَواسَ، الذي حدثَ في العام الثامنِ عشر للهجرة، حيثُ ماتَ منهُ أكثرَ من خمسةِ وعشرين ألْفًا من المسلمين، من بينهم أمينُ هذه الأُمَّةِ أبو عبيدةَ عامرُ بن الجراح، وغيرهُ من كبارِ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم أجمعين.
والعلامةُ السادسة: استِفاضةُ المالِ حتَّى يُعطَى الرَّجُلُ مِئةَ دينارٍ فيَظَلُّ ساخِطًا؛ وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المالُ، فَيَفِيضَ حتَّى يُهِمَّ رَبَّ المالِ مَن يَقْبَلُهُ منه صَدَقَةً، ويُدْعَى إلَيْهِ الرَّجُلُ فيَقولُ: لا أرَبَ لي فِيه"، وقد حدثَ هذا في زمن خلافةِ عمر بن عبدالعزيز رحمه الله.
والعلامةُ السابعة: معركةُ صفين، سنةَ سَبعٍ وثَلاثينَ للهِجرةِ، وكانت بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، ومع كُلٍّ منهما جيشٌ عظيمٌ يزيدُ عن المائة الف، وقد راحَ ضحيةُ هذا الخِلافِ عددٌ كبيرٌ جدًا من الصحابةِ والتابعينَ يُقدرُ بسبعينَ الفًا، فعن ابي هريرةَ رضيَ الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتانِ عَظِيمَتانِ، وتَكُونُ بيْنَهُما مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ ودَعْواهُما واحِدَةٌ"؛ رواه مسلم.
والعلامةُ الثامنة: نارٌ تخرجُ بأرض الحجازِ تُضيءُ لها أعناقُ الإبلِ بالشام، ففي الصحيح عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَخْرُجَ نارٌ مِن أرْضِ الحِجازِ تُضِيءُ أعْناقَ الإبِلِ ببُصْرَى"، وبُصرى هي مدينةُ حُورانَ بالشام، وتبعدُ عن المدينة أكثر من ألف كيلو، قال الامام النووي رحمه الله، خَرجت في زماننا نارٌ بالمدينة سنةَ 654 للهجرة، وكانت نارًا عظيمة بِقُرْبِ المدينةِ، تَوَاتَرَ العِلْمُ بها عند أهلِ الشَّامِ، وسائرِ البُلدانِ، وقال ياقوت الحموي: إنَّ أهل الشام رأوا ضوءها، وقيل: إنها لَبِثَتْ مُتقدةً تَرمي بالحمم نَحْوًا من خَمسينَ يومًا.
والعلامةُ التاسِعة: قتالُ التتار والمغولِ والترك، ففي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا قَوْمًا نِعالُهُمُ الشَّعَرُ، وحتَّى تُقاتِلُوا التُّرْكَ، صِغارَ الأعْيُنِ، حُمْرَ الوُجُوهِ، ذُلْفَ الأُنُوفِ، كَأنَّ وُجُوهَهُمُ الـمَجانُّ الـمُطْرَقَةُ"؛ أي عريضةٌ مسطحة، وقد حدث هذا في نهاية العهد العباسي في القرن الثامن الهجري.
أيها الأحبة الكرام، كُلُّ علامةٍ من هذه العلامات، إعجازٌ غيبي، ودليلٌ من دلائل صدقه صلى الله عليه وسلم، وهناك أحاديثُ صحيحةٌ كثيرةٌ، فيها إخبارٌ بأحداثٍ وقعت كما أخبرَ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتعتبرُ من علامات الساعةِ؛ كخبر مقتلِ عمرَ وعثمانَ رضيَ الله عنهما، ومعركةُ الجملِ وفتنةُ الخوارجِ، وتنازلِ الحسنِ عن الخلافة، وزوالِ فارسَ والروم، ومقتلُ بعضِ الصحابةِ كعمَّار وغيره، لكن لأنَ المصطفى صلى الله عليه وسلم لم ينص على أنها من علامات الساعة فلم نفصِّل فيها، كما أنَّ هناك أحاديث كثيرة فيها ذكرٌ للساعة، ولكنها من العلامات التي ما زالت مُستمرةً، وهذا ما سنتحدثُ عنهُ في الحلقةِ القادمةِ بإذن الله تعالى.
نسألُ اللهَ جلَّ وعلا أن يُعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا هُداة مهتدين، وأن يُجنبنا الفتن، ما ظهر منها...
يا بن آدم، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمَل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يَبلى والذنب لا ينسى، والديَّان لا يموت، وكما تدين تدان، اللهم صلِّ.
======
سلسلة خطب الدار الآخرة (4)
الأشراط التي ظهرت وما زالت مستمرة
الحمد لله حمد الرضا، حمدًا كثيرًا طيبًا، حمدًا كبيرًا أرحبا، حمدًا كأنسام الصَبَا، كالزهر يعبِقُ بالرُبا .. كالنور شعشع لاهبًا، حمدًا جميلًا موجِبًا، فهو الذي لم يزل بالعِزِّ محْتَجِبًا، علا عنِ الوصْفِ مَن لا شيءَ يُدْرِكُه، وجَلَّ عن سبَبٍ من أوْجَدَ السَّببا، والشُّكرُ للهِ في بدْءٍ ومُخْتَتَمٍ، فالله أكرَمُ من أعْطى ومَنْ وَهَبا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ﴾، الباطِن الظّاهرُ الحقُّ الذي بهرَتْ، آياتهُ فذ العقولٍ فأذعنت رهبًا، ثمَّ الصّلاة ُعلى النُّورِ المبينِ ومن قد شاهَدَ الكلُّ من آياتِهِ عجَبَا، صلَّى عليه الذي أهْداهُ نُورَ هُدًى، يبْقَى على الدَّهْرِ إنْ ولَّى وإنْ ذهبا، مُحَمَّدٌ خيرُ من تُرْجى شَفاعتُهُ، غدًا وكُلُّ امرئٍ يُجْزَى بما كَسَبا، اللهم صلى وسلم وبارك على إمامنا وحبيبنا محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلم تسليمًا كثيرًا أرحبا.
أما بعد:
فيا ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29]، ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 52]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]، ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5]، جعلني الله وإياكم من المتقين.
معاشر المؤمنين الكرام، هذه هي الحلقة الرابعة من سلسلة دروسِ الدارِ الآخرة، وكنا قد تحدثنا في الحلقة الماضية عن أشراط الساعة وهي الأحداثُ التي أخبرنا اللهُ تباركَ وتعالى، أو أخبرنا نبيُه صلى الله عليه وسلم أنها ستقعُ في المستقبل، وتدلُ على قُرب قيامِ الساعةِ، وهي علاماتٌ كثيرة، وذكرنا أنَّ غالبها حولَ غُربةِ الدين، وكثرةُ الفتن وتسارُعِها، وذكرنا أن أفضلَ تقسِيمٍ للعلامات، ما كان بحسب ترتيبِ ظهورها، فهناك علاماتٌ ظهرت وانتهت، وعلاماتٌ ظهرت وما زالت مُستمرة، وعلاماتٌ لم تظهر بعد، والعلامات الكبرى، وذكرنا مجموعةً من علامات القِسم الأول؛ كبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وانشقاقُ القمر، وفتحِ بيت المقدس، ومعركةِ صفين، وقتالِ التتار والمغولِ، ونارِ الحجاز التي قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَخْرُجَ نارٌ مِن أرْضِ الحِجازِ تُضِيءُ أعْناقَ الإبِلِ ببُصْرَى"، وللتصحيح فإنَّ مدينة بُصرى تبعدُ عن المدينة أكثرَ من ألف كيلو، وأمَّا القِسمُ الثاني، وهي العلامات التي ظهرت وما زالت مستمرة، فأولها ظهورُ الفتن: فعن ابي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ بينَ يديْ الساعةِ فِتَنًا كقطعِ الليلِ المظلمِ يُصبحُ الرجلُ فيها مؤمنًا ويُمسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا ويُصبحُ كافرًا، القاعدُ فيها خيرٌ من القائمِ، والماشي فيها خيرٌ من الساعي"، والحديث صححه الألباني.
فالفتنُ بين يدي الساعةِ كثيرةٌ جدًّا، منها الصغيرُ ومنها الكبير، ومنها ما لا يُحتمل، وكُلها من الابتلاء والامتحان، فقد جاء في الحديث الصحيح قال رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا ثُمَّ يُمْسِي كَافِرًا، ثُمَّ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ خَلاَقَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا يَسِيرٍ"، قَالَ الْحَسَنُ البصري: "وَلَقَدْ رَأَيْنَاهُمْ صُوَرًا وَلاَ عَقْلَ، أَجْسَامٌ وَلاَ أَحْلاَمَ، فَرَاشَ نَارٍ، وَذِئَابَ طَمَعٍ، يَغْدُونَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَيَرُوحُونَ بِدِرْهَمَيْنِ، يَبِيعُ أَحَدُهُمْ دِينَهُ بِثَمَنِ الْعَنْزِ"..
وهذا الحديث من جوامع كلمهِ صلى الله عليه وسلم، فغالبُ أحاديث الساعة عن الفتن، وكثيرٌ منها فتنٌ عظيمةٌ يمكنُ أن تصرفَ المسلمَ عن دينه، وتحولهُ إلى الكفر عياذًا بالله، وثاني العلامات التي ظهرت وما زالت مستمرة: ظهورُ الدجالينَ الكذابين الذين يدَّعُون النبوةِ، فقد جاء في صحيح مُسلمٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذّابُونَ قَرِيبٌ مِن ثَلاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أنَّه رَسولُ اللَّهِ"، وقد ظهرَ كثيرٌ من هؤلاء الدجالين: منهم مُسيلمةَ الكذاب، ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومات على كفره، وسجاحُ، وهي امرأةٌ من بني تميم ادَّعت النبوة ثم تابت وأسلمت، وطليحةُ الأسدي وقد أسلم أيضًا، والأسود العنسي ظهر بصنعاء وقُتل على الكفر، ثم ظهر المختار الثقفي، والحارثُ الكذابُ في خلافة بني أمية، وخرج غيرهم في خلافة بني العباس، كما ظهرَ مجموعة في عصرنا الحالي، منهم: أحمد القادياني بالهند، والميرزا عباس بإيران، ولا يزالُ هؤلاء الكذابون يظهرونَ حتى يكون آخرهم الأعورُ الدجال، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وأنَّهُ واللَّهِ لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يخرجَ ثلاثونَ كذَّابًا، آخرُهُمُ الأعوَرُ الدَّجَّالُ مَمسوحُ العَينِ اليسرى"، ومن العلامات المستمرة: كثرةُ الهرج، ففي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بين يَدَيْ السَّاعَةِ الهَرْجَ، قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: القَتْلُ، إنَّهُ ليس بقَتْلِكُمُ المُشْرِكِينَ، ولكنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حتى يقتلَ الرجلُ جارهُ، ويقتلُ أخاهُ، ويقتلُ عمَّهُ، ويقتلُ ابنَ عمِّهِ .. إلخ الحديث، ومن علامات الساعةِ التي ظهرت وما زالت مُستمرة: فشوُ التجارةِ، وتسليمُ الخاصةِ، وقطعُ الأرحامِ، وكتمُ شهادةِ الحقِّ، وظهورُ القلمِ، ففي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ بين يَدَيِ الساعةِ تسليمَ الخاصةِ، وفُشُوَّ التجارةِ حتى تُعِينَ المرأةُ زوجَها على التجارةِ، وقَطْعَ الأرحامِ، وشهادةَ الزُّورِ، وكِتمانَ شهادةِ الحقِّ، وظهورَ القلمِ"، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من أشراطِ الساعةِ أن يُسلِّمَ الرجلُ على الرجلِ لا يُسلِّمُ عليهِ إلا للمعرفةِ"، والحديث صحيح، وقد أُمرنا بالسلام على من نعرف ومن لا نعرف، وأما فشوُّ التجارة فمعناه ازديادها حتى تُلهي عن طاعة الله، وظهورُ القلم، أي انتشارُ الكتابة، وتوفُّر أدواتها، ومن علامات الساعة التي ظهرت وما زالت مستمرة: التطاولُ في البنيان، وأن تلدَ الأمةُ ربتها، وأن يعلو الأشرار، ففي الحديث الصحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منَ اقترابِ الساعَةِ أن تُرْفَعَ الأشرارُ ويوضَعَ الأخيارُ"، وفي حديث جبريل عليه السلام، حين سألَ عن أمارات الساعةِ، فقال صلى الله عليه وسلم: سأُخبرُكَ عن أشراطِها، إذا ولدتِ الأمَةُ ربَّتَها فذلكَ من أشراطِها، وإذا كانتِ العُراةُ الحُفاةُ رُؤوسَ الناسِ، فذاكَ من أشراطِها، وإذا تَطاوَلَ رِعاءَ البُهمِ في البنيانِ، فذاكَ من أشراطِها"، وفي رواية لمسلم: "أن تلدَ الأمةُ ربَّتَها، وأن ترى الحفاةَ العراةَ العالةَ رِعاءَ الشَّاءِ يتطاولونَ في البنيانِ"، وصدق أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فها هم من كانوا بالأمس رُعاة الغنمِ والإبل، يملكون اليوم أطولَ الأبراج في العالم، ومن علامات الساعة التي ظهرت وما زالت مستمرة: ضياع الأمانة، ففي صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة"، قال: كيفَ إضاعتها يا رسول الله؟! قال: "إذا أُسندَ الأمرُ إلى غير أهلهِ فانتظر الساعة"، ومن علامات الساعة المستمرة: التشبه بالكفار، ففي صحيح البخاري: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَأْخُذَ أُمَّتي بأَخْذِ القُرُونِ قَبْلَها، شِبْرًا بشِبْرٍ وذِراعًا بذِراعٍ، فقِيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ، كَفارِسَ والرُّومِ؟ فقالَ: ومَنِ النَّاسُ إلَّا أُولَئِكَ"، وفي صحيح الجامع عن المستورد بن شداد رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَتْرُكُ هذه الأمةُ شيئًا من سُنَنِ الأولينَ حتى تأتيَه".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120].
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلامًا على عباده اللذين اصطفى، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، معاشر المؤمنين الكرام، ما زلنا مع علامات الساعةِ التي ظهرت وما زالت مُستمرةً، ومن أخطرها: ظهورُ النساءِ الكاسيات العاريات، فعنِ أبي هريرَةَ قال: "مِنْ أشراطِ الساعةِ أنْ يَظْهَرَ الشحُّ والفُحشُ ويؤتَمَنَ الخائِنُ وَيُخَوَّنَ الْأَمِينُ وتظْهَرَ ثِيَابٌ تَلْبَسُها نساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ"، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: "صِنفان من أهل النار لم أرهما، قومٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر، يضربونَ بها الناس، ونساءٌ كاسياتٌ عاريات، مُميلاتٌ مائلات، رؤوسُهن كأسنمة البُخت المائلة، لا يدخُلن الجنة، ولا يجدنَ ريحها، وإنَّ ريحها ليوجدُ من مسيرة كذا وكذا"، وتأمَّلوا دِقةَ الوصفِ، فقولهُ: كاسياتٌ عاريات؛ أي: إنَّ بعض أجسادِهن مغطًّى، والبعضُ الآخرُ مكشوف، فهي كاسيةٌ عارية، وذلك أشدُّ في الفتنة، وقولهُ: مُميلاتٌ مائلات، وصفٌ دقيقٌ لمن تلبس الكعب العالي فتميلُ بجسمها، وإذا مشت به مالَ إليها من في قلبه مرض، فهي على الحقيقة: مائلةٌ في نفسها، مُميلةٌ لغيرها، وكُلُّ هذا من علامات النبوةِ، ودلائلِ صدقهِ صلى الله عليه وسلم، ومن العلامات المستمرة: انتشارُ الفُحش، وقطعِ الأرحام، وأن يُؤتمَنَ الخائنُ ويُخوَّنَ الأمينُ، ففي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "مِن أشراطِ السَّاعةِ الفُحْشُ والتَّفحُّشُ وقطيعةُ الأرحامِ وتخوينُ الأمينِ وائتمانُ الخائنِ"، والفحش هو ما يشتد قُبحه، ومن العلامات المستمرة: انتشارُ الربا والزنا والخمر، ففي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "بين يدَيِ السَّاعةِ يظهرُ الرِّبا والزِّنا والخمرُ"، وفي صحيح مُسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ أشْراطِ السَّاعَةِ أنْ يُرْفَعَ العِلْمُ، ويَثْبُتَ الجَهْلُ، ويُشْرَبَ الخَمْرُ، ويَظْهَرَ الزِّنا"، ويُلحقُ بهذا التهاون بالكبائر واستحلالُها: ففي صحيح البخاري: قال صلى الله عليه وسلم: "ليكوننَّ من أمتي أقوامٌ يستحلونَ الحِرَ - أي الزنا - والحرير، والخمر، والمعازف"، وتأملوا يا عباد الله ففي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "ليشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها، يُعزَفُ علَى رؤوسِهِم بالمعازفِ والمغنِّياتِ، يخسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأرضَ، ويجعَلُ منهمُ القِرَدةَ والخَنازيرَ"، ومن العلامات المُستمرة: كثرةُ الكذبِ، وتقاربُ الأسواقِ، ففي الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تَقومُ السَّاعةُ حتى تَظهَرَ الفِتَنُ، ويَكثُرَ الكَذِبُ، وتتقارَبَ الأسواقُ، ويتقارَبَ الزَّمانُ، ويَكثُرَ الهَرْجُ. قيلَ: وما الهَرْجُ؟ قال: القَتلُ"، ومن أشراط الساعةِ التي ظهرت وما زالت مُستمرة: زخرفةُ المساجد والتباهي بها، ففي الحديث الصحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِن أشراطِ السَّاعةِ أن يَتباهى النَّاسُ في المساجدِ"؛ صححه الألباني.
أيها المؤمنون الكرام، كُلُّ حديثٍ من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عن علامات الساعةِ هو في الحقيقةِ إعجازٌ غيبي، ودليلٌ من دلائل صدقهِ صلى الله عليه وسلم، يزيدُ الإيمان، تأمَّل قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، كما أنَّ أشراطَ الساعة وعلاماتها تؤكدُ للمؤمن أن يثبُتَ على دِينه، وأن يُبادرَ بالتوبة والأعمالِ الصالحة؛ فالفتنُ الشديدةُ قادمةٌ، وما لم يتهيأ لها ويُقوي إيمانهُ، فقد يُفتنُ ويُصرفُ عن دِينه، ففي حديث الفتن: "يُصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا، يبيعُ دينهُ بعرضٍ من الدنيا قليل".
أحبتي الكرام، لا يزالُ هناك أحاديثُ كثيرةٌ فيها ذكرٌ لعلامات الساعة، ولكنها من العلامات التي لم تظهر بعدُ، وهذا ما سنتحدثُ عنهُ في الحلقةِ القادمةِ بإذن الله تعالى.
نسألُ اللهَ جلَّ وعلا أن يُعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعلنا هُداة مهتدين، وأن يُجنبنا الفتن، ما ظهر منها ...
ويا بن آدم عش ...
=========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أمراض القلوب وشفاؤها ابن قيم الجوزية

  شبكة مشكاة الإسلامية أمراض القلوب وشفاؤها ابن قيم الجوزية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور ...